لفضيلة الشيخ علاقة قوية بالشيخ الطاهر ابن العبيدي ، وكان هذا الأخير يمكث عنده الشهور أحيانا وكانت كل مجالسهم مفعمة بالعلم وكلها مناظرات ومساجلات تتبارى فيها أنواع المعارف فينجذب لما يدور فيها الجالسون، والمهتمون بالاستزادة والدراية والفهم ، فيفضلون الاستماع والاستمتاع ، هم لا يتدخلون إلا عند ما يكون هناك ما يحيِّر أو ما يصعب ليستوضحوا المسائل أو يستجلوا بعض الغموض . كان فضيلة الشيخ سي عطية يقدم الشيخ الطاهر ابن العبيدي رحمهما الله ليلقي دروسا في المسجد ، وقد سعدت أنا والحمد لله ، بحضور بعض دروسه ، ومما ظل عالقا في ذهني درسه في تفسير سورة “الزلزلة ” كان رائعا حقا ،فقد طوف بنا في معظم التفاسير ، وذكر أساليب هؤلاء المفسرين في التعامل مع النصوص القرآنية ، وأبان معاني الآيات إبانة مستفيضة ، لون معانيها بما يملك من فهم دقيق لمقاصد القرآن ومراميه ، وأزاح كل احتمال غير علمي لإدراك الغاية أو إقامة الدليل .
أذكر أنني خرجت معه ذات يوم ، وكنت طالبا للعلم في مجلس والدي ـ رحمه الله ـ ، وكان والدي يشجعني على مرافقة فضيلة الشيخ الطاهر1 بن العبيدي كلما دعاني الى ذلك ، وكان يدعوني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) رجل علم وتقوى وورع تخرج في مجلسه العلمي كثير من العلماء، وكان رحمه الله مضرب المثل في العبادة والتحرى للفتوى ، من مدينة تقرت بوادي سوف ، ولد رحمه الله عام 1304 هـ ( 1885 م ) وهو تاريخ تقريبي حسبما يورد ذلك الأستاذ محمد محدَّة الذي حقق كتاب الشيخ الطاهر ابن العبيدي ” رسالة الستر ” ، واسمه الكامل الشيخ الطاهر بن العبيدي بن علي بن بلقاسم بن أعماره ، وينتهي نسبه إلى الإمام علي كرم الله وجهه وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما،تعلم القرآن الكريم بالكتاتيب القرآنية وظهرت عليه بوادر النجابة والذكاء في سن مبكرة ، حيث حفظ القرآن الكريم في سن التاسعة من العمر،وأخذ عن مشائخها مبادئ العلوم الدينية ، وممن تعلم عنهم الشيخ ابن عبد الرحمن العمودي ، والشيخ محمد العربي بن موسى ، ثم انتقل إلى تونس في سبيل العلم فأكمل تعليمه بالزيتونة ، وله متون من بينها رسالة الستر ورسالة التيمم ،في الرسالة الأولى يقول:
يقول من يرجوا زوال القيد * من الذنوب الطاهر العبيدي
الحمد لله الذي قد ستــر * عوراتنا ، وقد حبانا النظرا
نشكره سبحانه أن شرّفـا * سوآتنا ثم نهى أن تكشفـا
………. إلى
واعلم بأن عورة الرجــال * خفيفة، غليظة ، فالتـالـي
الأنـثـيان ذكر فم الدبــر * وكشفها يبطـل قلَّ أو كثر
وفي الصلاة إن يك الستر سقط * وردَّه فورا فلا تصح قط
ويجب الكثيف لا يكفي الرقيق * والسط الواصف كرهه حقيق
أما في التيمم فيقول :
حمدا لمن قد شرع التيمُّما * مثل الوضوء لمن يعدم ما
وهو تعميمك وجها ويديـن * بالمسح مع نية أولى الضربتين
لكنمـا أسبـابـه كـثيـرة * جمعتها في جمل يسـيـرة
باستمرار ، فأغتنم الفرصة لأقرأ له بعضا من محاولاتي الشعرية فيضحك، ويقول لي” البداية طيبة،لكن يا ولدي عليك بحفظ الشعرالجيد للمتنبي والبحتري وحسان بن ثابت ،وحتى الشعرالجاهلي ولم لا ؟ “
سرنا في الطريق الرئيسي بالجلفة ( شارع الأمير عبد القادر ـ حاليا ـ ) وفجأة توقف فتوقفت معه وكان ذلك أمام حانة خمر ، فقال لي” ما هذا ؟” قلت “يا سيدي هذه حانة خمر” ، فامسكني من يدي وقال “هيا لندخل” فاشتد عجبي واستغرابي كيف يعرف الشيخ أن المحل
لبيع الخمر ثم يأمرني بالدخول معه إلى هذا المحل وعندما دخلنا صادفنا بعض الخمارين ممسكين بزجاجات الخمر أمام الطاولة ، وعندما شاهدوا فضيلة الشيخ وكان ذا وقار وهيبة عليه مسحة من
جلال ، بعضهم ترك زجاجته فوق الطاولة واختفى وبعضهم أحسوا بالمهانة والخجل،فقال لي”هيا لنخرج”،وخرجنا وكانت تراودني مساءلته لماذا دخلنا هذا المحل المشبوه وهو يعلم ذلك؟وأظن أنه أحس بهذا، و باستغرابي لما حدث،فابتسم وأنا برفقته عائدين إلى البيت وقال لي ” هذه الخطوة نحو الهداية ، وعندما يستشعر المذنب ذنبه فتلك علامة صحيحة،هؤلاء أحسوا بالخطيئة ومجرد إحساسهم بالخطيئة هو خطوة جيدة نحو التوبة “، وأدركت أن خطوات فضيلة الشيخ كانت بحساب وأن والدي رحمه الله عندما كان يشجعني على مرافقته كان يفقه ما يفعل.
( بعض المراسلات بين الشيخ سي عطية والشيخ الطاهر) رحمهما الله
نموذج من رسائل الشيخ الطاهر بن العبيدي التي أرسلها إلى الشيخ سي عطية مسعودى :
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم في عيد الفطر سنة 1380هـ
حضرة الأجلّ الأبجل جزيل العطية الشيخ سيدي عطية بن مصطفى أدام الله عطاياك واصطفاك وزانك بالعلم والعمل والإخلاص وأوفر حظك وأوفاك ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ما اغبرت الأقدام أو عبّرت الأقلام ،وبعد، فإني أهنيكم بعيد الفطر جميعا أنتم و سي يحي والنجال والعائلة والطلبة والمحبين الإخوان وجماعة الذكر والقرآن ، راجيا منكم صالح الدعوات بصلاح حالي وبلوغ آمالي،وقد أعجبني كثيرا التهنئة الرجزية بحيث أقول لا عيب فيها إلا عدم أهليتي لما فيها من المعاني الجزيلة والصفات الجليلة ، فنسأل الله أن يسترني في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلني فوق ما تظنون ، وأبلغوا سلامي للشيخ سيدي عبد القادر بِِزنِينة ونسأله صالح الدعاء وكذلك جملة طلبتك ، وخصوصا العامر سيدي عامر وسيدي الحاج الشريف ابن الخبيزي ،والسلام من كاتبه الطاهربن العبيدي والأولاد بتقرت، لطف الله بالجميع آمين.
حضرة الهمام بقية العلام ونعم البقية الشيخ سيدي عطية بن مصطفى أجزل الله لنا و لك من قوة اليقين عطية ، آمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تعمّكم وتعم العائلة والشيخ يحي والشيخ عامر و جملة الطلبة وحلقة دروسكم فتح الله عليهم و أرضاك عنهم،وبعد، فانه ورد علي مكتو بكم الرفيع خطا ونظما ونثرا فبارك الله لكم في بضاعتكم ووفقني وإياكم للإخلاص بحرمة الخواص ، أما أنا فأرجوا أن يجعلني الله فوق ما ذكرتم بفضله وبركة رسوله صلى اله عليه وسلم ، وأبلغوا سلامي الوافر البسيط الطويل الشيخ سيدي عبد القادر شيخكم وأسأل منكم ومن الطلبة قراءة فاتحة الكتاب بحضور قلب على ما نويت أنا ، ويسلم عليكم الأولاد والعَُبيد الحقير الطاهر بن العبيدي بتقرت لطف الله به ، آمين وسلم على باش آغا سيدي الحاج أحمد والشريف بن الخبيزي وباش آغا سعد ، وكلكم نسألكم الدعاء الصالح وندعو لكم بحفظ الإيمان وصلاح الأولاد والفؤاد .
رسالـة الشيخ سـي عطية رحمه الله إلى الشيخ الطاهر بن العبيدي ( شعرًا)
إلى عالم الصحرا العبيدي أبي المكي*تحية أهديها تفوق شذى المسـك
أهنئـه بالعيـد أرجوا له الشفــا*لإحياء شرع المصطفى الطيب المكي
وبعد،فما ترْكي الكتابة عن جفـا * لكن لنا عذر أوفي العذر ما ينكي1
بما حيّر الألبـاب جاء زمـاننـا * وسلَّ شيوفا مرهفـات بلاسبـك
فأغلى رخيصا منذ أرخص غاليا * وقلّب أوضاعا وذا حدث مبكي
فنسأل مولانا الثبات على الهدى * بجاه ذوُ البر والإحسان والنسك.
وحين تقدم فضيلة الشيخ الطاهر بن العبيدي فألقى درسا في تفسير القرآن الكريم ، وذلك باقتراح من فضيلة الشيخ سي عطية مسعودى ، أعجب بطريقة تفسيره للقرآن الكريم ،فقال فيه هذه الأبيات مفخرة القطر الإمام الطاهـر * له على الإسلام حق ظاهـر
لأنـه أبدى معـالم الـهـدى * بعلمـه فكـم لحـائـرهـدى
قـد وة خيـر نهجـه قويـم * إمـام رشـد نفعـه عميـم
قد ألّف التـآليـف الـعديـدة * ذات السنـا والرفعـة المفيـدة
إذا تصـــدّى لبيـان آيـة * فإنه أعجوبــة وآيــــة
يأتي بأقوال المفسـرين مـن * مثل،ابن عباس2،وأمثال الحسن3
إلى الخطيب4 والإمام الصاوي * كـأنـه عـن قائـليـه راوي
نقل صحيـح ومقال فصـل * د لَّ على رسوخه في الفضـل
1)ينكى : قال في أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد : ” وهنئت ولا تنكأ ” أي هناك الله بما نلت ولا أصابك وجع . المجلد الثاني صفحة ( 1341 )
2) ابن عباس : لعله عبد الله بن عباس الصحابي الجليل المعروف بمعرفة التأويل ( رضي الله عنه)
3) الحسن : يقصد به – والله أعلم – الحسن البصري رضي الله عنه
4) لعله الخطيب الشر نوبي
ومما كتبه للشيخ الطاهر بن العبيدي يستجيره هذه المقطوعة الشعرية :
حيّ شيخ الهدى أبا الإرشـــاد * عالم العصر فخر أهل الـواد
طاهرالقلب والجورح والأصــ * ـل والإسم وسيد العبــّاد
ربِّ زده مـعارفـا وكمــالا * واحفظ النجل من أذى الحسّاد
وبه وبعلمـه النفـعَ عَـــمِّم * واسلكن بالجميع نهج رشـاد
قل له يا إمام طال انتظـــاري * للجواب وفي يـديك مـرادي
فافتح القفل وامنح السؤل واسمح * بالمنى ، وابق قامع الإلحـاد
وسـلام معـطـر بـشـــذاه * أهل تقرت حاضر أوبــاد
وسـلام مكـرر وهو أحــلى * للإمـام العبيـــدي والأولاد
من عطية ، من لديـك هــواه * وهو في” الجلفة ” عليك ينادي.
بينه وبين شيخه وأستاذه الجليل فضيلة الشيخ سي عبد القادر طاهري ابن مصطفى ، شيخ زاوية زنينة ( الإدريسية ) تغمده الله برحمته .
نموذج من رسائل فضيلة الشيخ سيدي عبد القادر بن مصطفى المرسلة إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه وسلم تسليما ، محب الخير و أهله ، ولدي العلامة السيد عطية بن ا الحاج مصطفى السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته ، وبعد فإنه بلغني جوابك ولأجل ما طلبت من الإشارة عليك فها اني بعثت لك أخي سي أحمد بن مصطفى لينظر في حاجتك، ويأتيني بما يسرني من شانك ، وأعلم بأنني بعثت الطلبة بعد أن فتحت جوابك إلى ضريح سيدي محمد بن صالح وأمرتهم أن يقرؤوا سورة “يس” والمسبعات وينووا ثواب ذلك إلى سيدي عطية وسيدي محمد بن صالح ، وأن يطلبوا من الله أن يكفيك شر الأعداء ، والسلام عليك وعلى أولادك و أهلك وكافة الطلبة ، والسلام من الكاتب عبد القادر بن مصطفى . في 24 جمادى الأولى 1367 هـ
أما ما قاله الشيخ سي عطية في شيخه سي عبد القادر بن مصطفى فكثير أسجل جانبا منه وإلى القارئ الكريم هذه النماذج .
سيدي يا قطب أهـل الله هـذا * خادم ممـا دهـاه بــك لاذ
حلَّ بالأحشـاء ضـر مؤلـم * فتلاشـت قوتـي منه جذاذا
وطبيب الوقت أعطانـي دواء * لم يفد إن لم أقل ضرّ وأذى
فاسـأل الله يـداوي علـّتي * فمن اضطر بمولاه استـعاذ
وسلام عـاطر يـهدى لكـم * من محبّ لاجئ يرجو عياذا
وبعِيد النَّـحرِ تهنـا في صفا * كل عام ، ولنا دمت مـلاذا
ومما كتبه إليه وقد أرسلني حاملا هدية وهي عبارة عن مجموعة من الألبسة:
سيدي يـا إمام أهل زمـانـه * دمت في أمن ربنـا أمـانـه
وشفى الله سيـدي من سقـام * طالما حبسته عن إخـوانـه
والسلام عليك ما اشتدّ شوقـي * لمربّي ، شاكرا لامتـنـانـه
ثمّ إني بعثـت يحـي ليـحي * قلبـه بلقـاء شيـخ أوانـه
حاملاكسوة لشيـخي وأهـليــــه،عسى أن أكون من جيرانـه
رضي الله والنبي وأهل الد يـــن عنك ، ودمت في رضوانه
وكتب له،وقد حرص أن يبدأالأبيات بحروف عبارة(عبد القادر سيدي)
ع علا فوق هام الفَرْقَدَيْن جـلالا * وأشرق بدرا نوره يتــلالا
ب بخدمة مولاه استنار طريقـه * فمن يقتفيه لا يخاف ضلالا
د دعا الخلق للنهج القويم محـذّرا * لهم من بنيَّات تجرُّ اختلالا
ا أمين علىالشَّرع الشَّريف وحافظ * لسنة من فـاق الأنام خلالا
ل له شهد الأعدَا ببـاهر ســره * ونادت صحارى باسمه وتلالا
ق قوي على حفظ الجوارح باسل * فلم يأتِ إلا واجبـا أوحلالا
ا إذا قيل هل في الناس من مثله فقل*وأكد بإيمـان مقالك :لا .لا .
د دليل هدى للسالكـين سبيلـه * فكم صار بدرا من أتاه هلالا
ر رؤوف رحيم صابر متحمِّـل * ومنهلـه للـواردين زُلا لا
س سلام على الشيخ الجليل وحزبه* وأولاده والمحسنين فعـالا
ي يروح ويغـدو بكرة وعشيـة * ورضوان ربِّي يرتديه ظلالا
د دوائي دعاء منه في حالة الصفا * يزيل عن الجسم العليل اعتلالا
ي يوافي كماءالمزن في شدة الظما * فيوقظ روحي من سبات توالى.